- نادر المغـوار..| اح ـلى أعضاء |..
- مُشآركاتيّ : : 601
تاريخ التسجيل : 12/08/2012
السيد سالم ..
الثلاثاء أغسطس 14, 2012 8:00 pm
السيد سالم
للكاتب/ محمد نبيه الشعّار
أول ما رأى من حلب.. كان دوّار الصاخور: بناسه، وبغاله، والباعة بعرباتهم التي يجرونها – لا آلة ولا حيوان- مليئة بالبرتقال أو الموز أو الخيار وغير ذلك من فاكهة أو خضروات أو آنية بلاستيكية ملونة، وبازدحامه بالمنادين إلى السفر.
انبهر سالم السلوم، كمن أخذته الصيحة.
استغرب أكثر ما استغرب ذلك العجّ من الرجال والنساء والأطفال المتزاحمين إلى سفر لجهات منها الوجهة التي غادرها.. تساءل بينه وبين نفسه كيف يتزاحمون ويترجّون ليعودوا من حيث أتوا. فهذه حلب التي ما ردّت أحداً، بل جبرت خاطر كل قاصد.
كانت السيارة تواصل بحمْلها الصعب: المسافرين وأنعامهم وأطفالهم الباكين أو المتباكين مللاً أو ألماً من مرض ما.. حتى بلغت مقصدها: باب الحديد، فاستكان ضجيجها وضجيج الراكبين. ترجل الجميع إلا سائقها ومعاونه الفظُّ الذي نهر الركاب جميعاً طيلة الرحلة كأنه لم يعرف من الكلام في حياته إلا الشتائم؛ أربع ساعات من القرية إلى حلب وما كفَّ له زجر أو صياح أو شتيمة أو صفعة لولد.. حمداً لله فقد وصلنا أخيراً؛ فلنفارق هذا المتجبر الأخرق.. قال سالم ذلك عندما أصبح على مبعدة كافية من السيارة.
عبَّ سالم من هواء حلب. إن لهواء حلب رائحة أخرى. وإن للصباح فيها نكهة ميْس السنابل في العصاري. وإن للرزق فيها أبواباً كثيرة مُشرعة لكل قاصد..
منذ الغد، بل منذ اليوم إذا يسّر الله أعمل مع العتالين في "باب جنين"( ) حتى إذا انقضى عام - بل أقل - تكون لي عربة أبيع عليها مالذّ وما طاب مما يستهوي الحلبيين؛ ولن أجرها كالباعة الجهلة في الصاخور.. ستكون لي دابة تجرها فتريحني، وأنا أنادي على بضاعتي وأقبض الأثمان..
حادث سالم السلوم نفسه بهذا..
تقدم لا جهة من ميدان باب الحديد. استوقفه لحاف ممدود على الرصيف صفّت عليه تباعاً أشياء وأدوات متنافرة ومتآلفة في آن معاً، ووراءه امرأة تربعت بسوادها – لباساً وسحنة - وقد انهمكت في جدال مع مشترٍ يبدو أنه من أهل البادية حول مفتاح لقفل ليس معه. اشتد الجدال اختلافاً حول السعر، ثم عن نية المشتري إعادة المفتاح إذا لم يفتح القفل. تدخّل سالم معبراً عن استغرابه أن يشتري أحد مفتاحاً لقفل ليس معه فزجره المشتري. وإذ تحول إلى امرأة السواد المتربعة- وقد أخذت تُرضع في بلهِ هُرَةٍ هرمةٍ، وليداً أصفر مزرقّاً كأنه ليمونة قطفت منذ سنة –وأردف:
- وماذا تخسرين إذا أعاده عندما لا يتراكب مع القفل؟ ماذا يفعل به عندئذ؟
نهرته المرأة من وراء حجابها، فضرب كفاً بكف وقال:
- خيراً تعمل، شراً تلقى.. والله إنك لظالمة.
أبعدت المرأة رضيعها فصاح الرضيع. مالت إلى قبقاب أمامها ورمته به فأخطأته..
مضى ومعه استغرابه واندهاشه من الباعة والمشترين، بل ومن حلب نفسها، وعلى الأخص، أبواق السيارات التي لا تكفّ عن الصياح كأن جناً مسّها أو هو مقيم داخلها. وكيف يختلط الناس بالحديد، بغبار أسود، بالعدو، بالتأني، بالضوضاء، بقامات الرجال المتأنقين والنساء السافرات والمحجبات، ببسطات سلع متباينات على الأرصفة، برواح وغدوِّ عصافير لا يعلم من أين تجيء ولا أين تروح، بأضواء كثيرة في واجهات المتاجر مع أن الوقت ضحى.. تالله ليكونن لي متجر مثل هذه المتاجر، بل أحسن منها إن شاء الله.. هل هذا كثير عليك يا ربي وأنت الوهّاب بغير حساب..
..دَفَشَهُ خرج على جحش كان ينهق برتابة وبأنين.. فكاد يقع، لولا أن عاجل فاحتمى بمصطبة دكان.. تخيّل لو أنه ما كان عاجل، إذن لزحمه الجحش فدخل رأسه بزجاج واجهة المتجر.
لاح في الناحية المقابلة دخان شواء فتحسس جيباً خفياً في قميصه، أدخل كفه، لامس القطع النقدية، ثم شرع في عبور الشارع والرائحة الزكية تطوي الشارع كله، تلفُّ الناس والسيارات والإشارة الضوئية.. وسالم منجذب إليها. لكنه قبل أن يدخل في زخم الرائحة تسمّر.. اندفع ثم وقع كأن جبلاً دهم مؤخرته.. أحسّ باندلاق سائل ساخن قليلاً بارد قليلاً على ظهره.. ثم تمشى الساخن البارد، إلى باطن ركبتيه في أناة التذّ لها. شعر بنعاس حالم فنام دون أن يدري بأنه قد نام.
..حين صحا ظن نفسه في الجنّة. فهذه الحسناء – بزيها الأبيض كالطحين - حورية وُعِدَ بها منذ خلق الكون.
فُتح باب.. دخل اثنان: رجل وامرأة. فازدحمت الغرفة بعطر عبق ما شمّ مثله قط، ولا حدّثه أحد عن مثله قط.
فتحت المرأة فستق فمٍ كأنه قلب من اللوز واللؤلؤ:
- نحمد الله على أنك عدت لنا.
..رفع رأسه. بدا له الرأس ثقيلاً بوزن مئذنة. مدّ بصراً كحد مثقب.. تنهّد لحظة وقال:
- وأين كنت؟
قال الرجل الوسيم:
- لا عليك.. لا عليك إننا نحمده فعلاً.
لاقت عيناه عينيْ الحورية، فتبسّمت العيون:
- كنتَ في عالم، وأنتَ الآن في عالم ثان.
تلفت حواليه.. لم ير أنهار عسل وخمر، ولا أرائك يُتكأ عليها، ولا ولداناً يطوفون.. كاد أن يثقب السرير بسبابته ليتأكد من أنه لا يحلم. أيقن أنه في مكان ما من حلب، لكنه لم يعرف أين، كما لم يعرف أن حورية الطحين ممرضة في المستشفى، ولا من تكون المرأة الوردة أو الرجل الوسيم، ولا مأتى العطر الذي ملأ المكان كله، ولا أن المكان محض غرفة.
أذن لمخيلته أن تطير به بعيداً.. حلم بالحورية تبذر معه القمح وتتولى حلب الأغنام والماعز.. لا، لا.. سيبذر ويحلب عنها، فليس عليها إلا التفرغ له، تتمشط وتتزين النهار كله، حتى إذا كان الربع الثاني من الليل، تضاحكا معاً، ومارسا أموراً حميمة ودافئة. وحلم بالسرير يطير بهما معاً فوق غيوم ماخطرت على قلب بشر وما رأتها عين. وبأن هذا الرجل الوسيم كأنه المحافظ نفسه، يقول له نحمده على سلامتكم، كلما حطّ السرير من الرحلة خلف حدود المعلوم. وحلم بالمرأة الوردة تهش له وتبتسم كلما اكتحلت عيناه بها.
غير أن السيدة الفوّاحة، ردته من أحلامه السارحة عندما مدّت إليه بكف من شقائق النعمان والفل البهيج، ورقة نقد مطوية بأناقة واعتناء، وورقة عليها كتابة. أخذ سالم الورقتين ببراءة غراء رضية، تملاّهما طويلاً، قلّبهما. هم بإرجاعهما لكنه أمسك إذ سألته ما إذا كان قد قرأ المكتوب على الورقة قال:
- أيهما؟
قال الرجل:
- أيهما؟؟.. هذه بالطبع، فالثانية ورقة عملة يا سالم.
توشح وجه سالم بحمرة خجل رقيقة. إن سالم لايقرأ ولا يكتب، فهو أمي أباً عن جد. ولم يكن في حياته كلها قد رأى ورقة نقدية كهذه.. داخله فهم بأن لأهل حلب نقوداً غير التي يتداولون في القرية.
- النقود وفهمناها، والورقة كتابة، هل علي أخْذُهما؟
- بل تأخذ النقود هدية لك حلالاً زلالاً.
سألت المرأة بغنج باد:
- أنت لا تعرف الكتابة يا سيد سالم، ولا توقع أليس كذلك؟
أحس باغتباط جم. كانت هذه هي المرأة الأولى التي يسمع من يقول له يا [سيد].. كم سعد.. وكم أعتز.. أحست المرأة كأنه طاووس. وقبل أن يجيب، استل الرجل المهيب الوسيم من جيب سترته علبة معدنية رقيقة فرفع غطاءها وأمسك إبهام سالم بجفاء، ومهر الورقة به. لم يُسمع لسالم صوت. لم يصدر عنه اعتراض. كما لم يصدر عنه استفسار.. فقد بشت أساريره. بدا ممتناً ومبتهجاً أشد الابتهاج، فهو يعلم أن قبض النقود يستلزم بالتأكيد بصمة أو توقيعاً.
وبينما الورقة وبصمة سالم السلوم تأخذان طريقهما للاستقرار في محفظة السيدة.. كان غمٌّ كثير قد غمر الممرضة الشابة، فهمت أن تقول شيئاً، لكن حلقها غص، فأغضت حزينة وكسيرة.
خرجت كف السيدة من محفظتها بورقة نقد تُشبه أو لا تشبه ما أعطته لسالم. إن سالم لا يدري، لكنه رأى وسُرَّ سروراً عظيماً لما اعتبره جود المرأة وجود الرجل.
الممرضة ظلّت تريد أن تقول لسالم ما ودّت قوله قبل أن يغصّ حلقها، إلا أنها لم تقله.. بان على المرأة الفواحة ظفر عظيم وهمّت تغادر. أراد سالم أن ينزل من سريره لوداعها. أدرك أنه لا يستطيع. قال:
- تبّاً لك يا حلب.
ثم سحب ملاءة السرير فغطّى جميع وجهه.. وأخذ يبكي بصمت، وبذبول.
للكاتب/ محمد نبيه الشعّار
أول ما رأى من حلب.. كان دوّار الصاخور: بناسه، وبغاله، والباعة بعرباتهم التي يجرونها – لا آلة ولا حيوان- مليئة بالبرتقال أو الموز أو الخيار وغير ذلك من فاكهة أو خضروات أو آنية بلاستيكية ملونة، وبازدحامه بالمنادين إلى السفر.
انبهر سالم السلوم، كمن أخذته الصيحة.
استغرب أكثر ما استغرب ذلك العجّ من الرجال والنساء والأطفال المتزاحمين إلى سفر لجهات منها الوجهة التي غادرها.. تساءل بينه وبين نفسه كيف يتزاحمون ويترجّون ليعودوا من حيث أتوا. فهذه حلب التي ما ردّت أحداً، بل جبرت خاطر كل قاصد.
كانت السيارة تواصل بحمْلها الصعب: المسافرين وأنعامهم وأطفالهم الباكين أو المتباكين مللاً أو ألماً من مرض ما.. حتى بلغت مقصدها: باب الحديد، فاستكان ضجيجها وضجيج الراكبين. ترجل الجميع إلا سائقها ومعاونه الفظُّ الذي نهر الركاب جميعاً طيلة الرحلة كأنه لم يعرف من الكلام في حياته إلا الشتائم؛ أربع ساعات من القرية إلى حلب وما كفَّ له زجر أو صياح أو شتيمة أو صفعة لولد.. حمداً لله فقد وصلنا أخيراً؛ فلنفارق هذا المتجبر الأخرق.. قال سالم ذلك عندما أصبح على مبعدة كافية من السيارة.
عبَّ سالم من هواء حلب. إن لهواء حلب رائحة أخرى. وإن للصباح فيها نكهة ميْس السنابل في العصاري. وإن للرزق فيها أبواباً كثيرة مُشرعة لكل قاصد..
منذ الغد، بل منذ اليوم إذا يسّر الله أعمل مع العتالين في "باب جنين"( ) حتى إذا انقضى عام - بل أقل - تكون لي عربة أبيع عليها مالذّ وما طاب مما يستهوي الحلبيين؛ ولن أجرها كالباعة الجهلة في الصاخور.. ستكون لي دابة تجرها فتريحني، وأنا أنادي على بضاعتي وأقبض الأثمان..
حادث سالم السلوم نفسه بهذا..
تقدم لا جهة من ميدان باب الحديد. استوقفه لحاف ممدود على الرصيف صفّت عليه تباعاً أشياء وأدوات متنافرة ومتآلفة في آن معاً، ووراءه امرأة تربعت بسوادها – لباساً وسحنة - وقد انهمكت في جدال مع مشترٍ يبدو أنه من أهل البادية حول مفتاح لقفل ليس معه. اشتد الجدال اختلافاً حول السعر، ثم عن نية المشتري إعادة المفتاح إذا لم يفتح القفل. تدخّل سالم معبراً عن استغرابه أن يشتري أحد مفتاحاً لقفل ليس معه فزجره المشتري. وإذ تحول إلى امرأة السواد المتربعة- وقد أخذت تُرضع في بلهِ هُرَةٍ هرمةٍ، وليداً أصفر مزرقّاً كأنه ليمونة قطفت منذ سنة –وأردف:
- وماذا تخسرين إذا أعاده عندما لا يتراكب مع القفل؟ ماذا يفعل به عندئذ؟
نهرته المرأة من وراء حجابها، فضرب كفاً بكف وقال:
- خيراً تعمل، شراً تلقى.. والله إنك لظالمة.
أبعدت المرأة رضيعها فصاح الرضيع. مالت إلى قبقاب أمامها ورمته به فأخطأته..
مضى ومعه استغرابه واندهاشه من الباعة والمشترين، بل ومن حلب نفسها، وعلى الأخص، أبواق السيارات التي لا تكفّ عن الصياح كأن جناً مسّها أو هو مقيم داخلها. وكيف يختلط الناس بالحديد، بغبار أسود، بالعدو، بالتأني، بالضوضاء، بقامات الرجال المتأنقين والنساء السافرات والمحجبات، ببسطات سلع متباينات على الأرصفة، برواح وغدوِّ عصافير لا يعلم من أين تجيء ولا أين تروح، بأضواء كثيرة في واجهات المتاجر مع أن الوقت ضحى.. تالله ليكونن لي متجر مثل هذه المتاجر، بل أحسن منها إن شاء الله.. هل هذا كثير عليك يا ربي وأنت الوهّاب بغير حساب..
..دَفَشَهُ خرج على جحش كان ينهق برتابة وبأنين.. فكاد يقع، لولا أن عاجل فاحتمى بمصطبة دكان.. تخيّل لو أنه ما كان عاجل، إذن لزحمه الجحش فدخل رأسه بزجاج واجهة المتجر.
لاح في الناحية المقابلة دخان شواء فتحسس جيباً خفياً في قميصه، أدخل كفه، لامس القطع النقدية، ثم شرع في عبور الشارع والرائحة الزكية تطوي الشارع كله، تلفُّ الناس والسيارات والإشارة الضوئية.. وسالم منجذب إليها. لكنه قبل أن يدخل في زخم الرائحة تسمّر.. اندفع ثم وقع كأن جبلاً دهم مؤخرته.. أحسّ باندلاق سائل ساخن قليلاً بارد قليلاً على ظهره.. ثم تمشى الساخن البارد، إلى باطن ركبتيه في أناة التذّ لها. شعر بنعاس حالم فنام دون أن يدري بأنه قد نام.
..حين صحا ظن نفسه في الجنّة. فهذه الحسناء – بزيها الأبيض كالطحين - حورية وُعِدَ بها منذ خلق الكون.
فُتح باب.. دخل اثنان: رجل وامرأة. فازدحمت الغرفة بعطر عبق ما شمّ مثله قط، ولا حدّثه أحد عن مثله قط.
فتحت المرأة فستق فمٍ كأنه قلب من اللوز واللؤلؤ:
- نحمد الله على أنك عدت لنا.
..رفع رأسه. بدا له الرأس ثقيلاً بوزن مئذنة. مدّ بصراً كحد مثقب.. تنهّد لحظة وقال:
- وأين كنت؟
قال الرجل الوسيم:
- لا عليك.. لا عليك إننا نحمده فعلاً.
لاقت عيناه عينيْ الحورية، فتبسّمت العيون:
- كنتَ في عالم، وأنتَ الآن في عالم ثان.
تلفت حواليه.. لم ير أنهار عسل وخمر، ولا أرائك يُتكأ عليها، ولا ولداناً يطوفون.. كاد أن يثقب السرير بسبابته ليتأكد من أنه لا يحلم. أيقن أنه في مكان ما من حلب، لكنه لم يعرف أين، كما لم يعرف أن حورية الطحين ممرضة في المستشفى، ولا من تكون المرأة الوردة أو الرجل الوسيم، ولا مأتى العطر الذي ملأ المكان كله، ولا أن المكان محض غرفة.
أذن لمخيلته أن تطير به بعيداً.. حلم بالحورية تبذر معه القمح وتتولى حلب الأغنام والماعز.. لا، لا.. سيبذر ويحلب عنها، فليس عليها إلا التفرغ له، تتمشط وتتزين النهار كله، حتى إذا كان الربع الثاني من الليل، تضاحكا معاً، ومارسا أموراً حميمة ودافئة. وحلم بالسرير يطير بهما معاً فوق غيوم ماخطرت على قلب بشر وما رأتها عين. وبأن هذا الرجل الوسيم كأنه المحافظ نفسه، يقول له نحمده على سلامتكم، كلما حطّ السرير من الرحلة خلف حدود المعلوم. وحلم بالمرأة الوردة تهش له وتبتسم كلما اكتحلت عيناه بها.
غير أن السيدة الفوّاحة، ردته من أحلامه السارحة عندما مدّت إليه بكف من شقائق النعمان والفل البهيج، ورقة نقد مطوية بأناقة واعتناء، وورقة عليها كتابة. أخذ سالم الورقتين ببراءة غراء رضية، تملاّهما طويلاً، قلّبهما. هم بإرجاعهما لكنه أمسك إذ سألته ما إذا كان قد قرأ المكتوب على الورقة قال:
- أيهما؟
قال الرجل:
- أيهما؟؟.. هذه بالطبع، فالثانية ورقة عملة يا سالم.
توشح وجه سالم بحمرة خجل رقيقة. إن سالم لايقرأ ولا يكتب، فهو أمي أباً عن جد. ولم يكن في حياته كلها قد رأى ورقة نقدية كهذه.. داخله فهم بأن لأهل حلب نقوداً غير التي يتداولون في القرية.
- النقود وفهمناها، والورقة كتابة، هل علي أخْذُهما؟
- بل تأخذ النقود هدية لك حلالاً زلالاً.
سألت المرأة بغنج باد:
- أنت لا تعرف الكتابة يا سيد سالم، ولا توقع أليس كذلك؟
أحس باغتباط جم. كانت هذه هي المرأة الأولى التي يسمع من يقول له يا [سيد].. كم سعد.. وكم أعتز.. أحست المرأة كأنه طاووس. وقبل أن يجيب، استل الرجل المهيب الوسيم من جيب سترته علبة معدنية رقيقة فرفع غطاءها وأمسك إبهام سالم بجفاء، ومهر الورقة به. لم يُسمع لسالم صوت. لم يصدر عنه اعتراض. كما لم يصدر عنه استفسار.. فقد بشت أساريره. بدا ممتناً ومبتهجاً أشد الابتهاج، فهو يعلم أن قبض النقود يستلزم بالتأكيد بصمة أو توقيعاً.
وبينما الورقة وبصمة سالم السلوم تأخذان طريقهما للاستقرار في محفظة السيدة.. كان غمٌّ كثير قد غمر الممرضة الشابة، فهمت أن تقول شيئاً، لكن حلقها غص، فأغضت حزينة وكسيرة.
خرجت كف السيدة من محفظتها بورقة نقد تُشبه أو لا تشبه ما أعطته لسالم. إن سالم لا يدري، لكنه رأى وسُرَّ سروراً عظيماً لما اعتبره جود المرأة وجود الرجل.
الممرضة ظلّت تريد أن تقول لسالم ما ودّت قوله قبل أن يغصّ حلقها، إلا أنها لم تقله.. بان على المرأة الفواحة ظفر عظيم وهمّت تغادر. أراد سالم أن ينزل من سريره لوداعها. أدرك أنه لا يستطيع. قال:
- تبّاً لك يا حلب.
ثم سحب ملاءة السرير فغطّى جميع وجهه.. وأخذ يبكي بصمت، وبذبول.
- neymar jr..| اح ـلى أعضاء |..
- مُشآركاتيّ : : 801
تاريخ التسجيل : 15/08/2013
العمر : 26
رد: السيد سالم ..
السبت أغسطس 17, 2013 7:06 pm
مشكور
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى