يوميات مناضل ...أجزاء

كل من يسكن ذلك الزقاق يعرفون من يكون منصور... شخص نال الشهادة العليا ..بل وحاصل على الاجازة..لكنه عاطل عن العمل..لايفارق المقهى حيث يجد لنفسه هناك ملاذا آمنا ومطمئنا ...هكذا يصف الامور .لان فيها يكمن مصدر عيشه....وهناك تحلو له الثرثرة...ولاشيئا يضاهي ثرثرة المقاهي...لاتفارقه علبة السجائر و(النيبرو) وقطعة الشيرا......ويده تلهو طوال وجوده في المقهى في (الفتيخ) وصنع السجائر االمحشوة بالطابا والشيرا...يدخن ويتجادب أطراف الحديث مع أصدقائه...ويجمعهم همٌّ واحد هو البطالة..فكلهم عاطلين عن العمل...لكنهم يدبرون آمورهم لكسب المال ...وكل له طريقته...منصور يعرف مهنة كل واحد فيهم...فعبد القادر أو (عبَيّقْ)يتقن السرقة ...ويروق له مزاولة نشاطه في الحافلات ...او في الأسواق حيث تتواجد (الحلقة)..وأحيانا يعترض سبيل المارة ويسرقهم بالقوة..ويحدث هذا عندما يتناول العقاقير أو يكثر من شرب الخمر...أما أسامة فهو يبيع أي شيء يباع...(جوطية درب غلف)هي سوقه الذي ألفه ..وألِف بضاعته...وأحيانا يبيع ملابسه عندما لايجد مايبيعه...حتى يشتري قطعة حشيش وقنينات خمر...أما علي او (علِيوا) فهو متطفل...وليست لديه أصلا رغبة في العمل...ينتظر من أخته المتزوجة من فرنسي أن ترسل له مبلغا من المال كل شهر...
هؤلاء هم أصدقاء منصور ..والذين تلمهم مائدة المقهى...حيث يجتمعون هناك...يدخنون الحشيش ...ويحتشون القهوة أو الشاي...يتبادلون أطراف الحديث...وجل حديثهم فارغ من المحتوى...وغالبيته كلام سوقي ..كلام شارع...وتلك هي ثرثرة المقاهي....ومنصور بالرغم من ثقافته لايجد بدا من مسايرتهم في الحديث..بل ربما يجد متعة في ذلك...ويترقب ان يأتيه شخص ما بالخبر اليقين...عن بيع أو شراء شقة ..دكان...سيارة حتىّ...فهذا عمله(سمسار)...ومقهى السعادة هو مكتبه...لأن كل من يريده يجده فيها...
هكذا كانت تمر الامور في هذه المقهى الشعبي... ضجيج وصراخ وضحكات صاخبة...وكلام فاحش....
احس منصور ان ربيع الثورة غيّر كثير من تفكيره...حتى أصبح يخيل اليه أن اعطاه بعض الاعتبار...تراءى له أن هناك أمل يلوح في الافق...لذلك أراد ان يكون حديثه مختلفا مع اصدقائه...فلن يتكلم معهم في أمور تافهة...لذلك ارتشف نفسا عميقا من السيجارة المحشوة بالحشيش ونظر الى اصدقائه بعينين لاتكاد تجزم انها تنظر اليك ...كان كالثمل ..وقال بنبرة هادئة:مارأيكم نخرج اليوم في مظاهرة سباته...
سأله عليوا قائلا:وماذا نفعل في هذه المظاهرة؟؟
تنبه منصور لكلام صديقه عليوا وتبين له ان فيه لامبالاة أكثر من كونه ينم عن تكاسله ..لذلك أجابه:
ـ نشارك نحن أيضا في المظاهرة..الايروق لك ان تكون مناضل..الاتريد ان تشتغل..وتنعم بالحياة الرغيدة والكريمة...؟؟.
أردف أسامة قائلا بعد ان راقه ماقال منصور:
ـ عندك حق..على الأقل نفرغ مافي داخلنا من ضغط ..عندما نسب ونشتم ونصرخ ونعربط...
ظل عبيق صامتا...يدخن الحشيش ..ويلوح بعينيه الغائرتين الراقدتين في وجوه اصدقائه...وهو يتكلمون عن النضال ...لم تعجبه فكرة منصور.. دخله الشك بخصوص كلامه...ركز النظر اليه وهو يمتص السيجارة المحشوة بالحشيش...أعتقد أنه يريد أن (يسمسر) في النضال أيضا....لكن سرعان ماسأله منصور ..وكأنه قد تنبه أنه شخص النظر اليه:
ـ وانت ياعبيّق هل ستخرج معنا؟؟
أجابه عبيق بنبرة ساخرة:
ـ لن أشارك في مظاهرة سلمية...أريد مظاهرة تسرق فيها الاملاك العامة والخاصة...
وكأن فكرة ما خطرت بباله ونضجت في لحظة حيث أسـتأنف قائلا:
ـ لماذا لانستغل نحن فرصة مايجري،وتكون لنا مظاهرة بمقاسنا ...وانا أعرف الاشخاص المناسبين للانضمام اليها...
أجابه منصور وكانه فهم قصده:
ـ هل تعتقد أن الدنيا فوضى...وان المخزن سيتساهل مع أمثالك ...لاتأخدك العزة بماجرى في طنجة ..فلن يتكرر الامر هنا...
ثم وكأنه يكشف عن نوايا كانت خفية قبل لحظة:
ـ لابد من اتباع طرق مناسبة لنخرج وجيوبنا ممتلئة بالمال...
قال عبيق بنبرة من خمن وكان تخمينه في محله:
ـ كنت واثق ...
وقبل أن يستفسر منصور عن مايقصده ...أردف عليوا قائلا :
ـ أنا خارج اللعبة..
في حين قال أسامة وهو يشفط آخر انفاس سيجارته:
ـ فكروا ودبروا...أنا معكم...
قال منصور وهو يخاطب عليوا:
ـ قبل أن تعرف ماذا سنقوم به؟
أجابه:
ـ في كل الاحوال ليس لديك خطة ..فأنت فقط تريد ان تنضم الى مظاهرة سباته...وستنتهي ويذهب كل واحد الى حال سبيله...فماذا سنستفيد ...
ـ نحن فعلا سنخرج في هذه المظاهرة..لكن ليس للمشاركة بل للتعرف على نشطائها...هؤلاء هم الذين سيقودونا الى العز ...
أشعل أسامة سيجارة وهو يبتسم ابتسامة ساخرة ثم قال :
ـ بدا يروادني الشك أن الحشيش لعب على دماغك...
قال عبيق وهو يخاطب أسامة:
ـ أراهن أن منصور لديه فعلا خطة جهنمية ..فلماذا لاندعه يشرح لنا الفكرة...
دس منصور يده في جيب معطفه...لم يجد ضالته فأخرجها ..ودس كلتا يديه في جيوب سرواله..فأخرج احداها ممسكة بورقة ...ثم قال وهو يخاطب اصدقائه:
ـ هذا رقم هاتف إحدى اصدقائي... من الذين درسوا معي في الجامعة...وهو عضو مهم في تنسيقية عين الشق...وهو أيضا عاطل عن العمل...وحسب علمي فهو يتقاضى الأجر مقابل نشاطه في الحركة من جماعة العدل والإحسان المحضورة....
وضع الورقة في المائدة ...وتناول كأس القهوة..كان فارغا ...نظر اليه ثم مالبث أن وضعه في مكانه ثم استأنف كلامه قائلا:
ـ الحسين قبل ربيع الثورة لم يكن في أحسن حال...وكان اليوم بحاله يلاحق الفتيات...في معامل الخياطة والمدارس..وبرفقة أشخاص ينشطون معه في الحركة الآن...وله سوابق عدليه...وضبط اكثر من مرة متلبسا قضايا دعارة ..
قبل ان يستطرد في الكلام قاطعه عبيق قائلا:
ـ وماذا سنستفيد نحن ...من قصة حسين هذا؟؟
ـ جيوبه الأن اصبحت مملوءة بالمال...وسنحذوا حذوه...وهو بنفسه عرض علي الانضمام اليهم...فطلبت منه ان يمهلني لفترة...
امتص السيجارة المحشوة بالحشيش بعمق ...وبنفس طويل...كان يبدوا كالنعسان..وبالكاد كان ينظر إلى أصدقائه...ومع اول زفير خرجت غمامة دخان كثيفة من انفه وفمه...ثم قال :
ـ يجب ان نكون عمليين للغاية في مظاهرة سباته حتى نكسب ثقة الحركة...ونتمكن من مقابلة المسؤولين في الجماعة
قال عليوي محاولا أن يطفي على كلامه لهجة استغراب:
ـ ماذا تعني يجب أن نكون؟من تقصد؟؟
ـ أجابه منصور بنبرة هادئة:
ـ أقصد من سيوافق منكم..وانا اراهن أنك لن تبرح هذه المقهى...
سأله أسامة وكانه يريد ان يوحي له انه مقتنع بالفكرة:
ـ وماذا يجب علينا أن نفعل ..يعني ماهو المطلوب مني ومن صديقي عبيق؟؟
رمى منصور بعقب السيجارة على الارض ..وقال وهو ينظر الى أسامة:
ـ ليست لدي الآن خطة محددة...لكن في كل الاحوال سأحاول ان اوزع عليكما أدوار تناسب عقولكما وميولكما...
أردف عليوي قائلا:
ـ وماد عني الست معكم في الخطة؟؟
رد عليه منصور:
ـ الم تطلب مني ان تكون خارج اللعبة؟
قال وهو يحاول أن يصنع ابتسامة..لكنها بدت خبيثة بعض الشيء :
ـ أنا على استعداد ان أكون مناضلا...لذلك انا معكم ...
.................................................. .................................................. .....

مشكور